استغل الرئيس بوش مناسبة الذكرى الخامسة لغزو العراق، لتأكيد اعتقاده بأن التاريخ سوف يثبت صحة اتخاذه لقرار الغزو فيما بعد. وراق له تشبيه نفسه بالرئيس الأسبق هاري ترومان الذي غادر البيت الأبيض بنسبة تأييد شعبي متدنية للغاية، بسبب تورطه في الحرب الكورية، ليأتي المؤرخون لاحقاً فيعيدون له اسمه واعتباره كاملين. غير أن "ديفيد ماكولوف"- المتخصص في كتابة سيرة "ترومان"- حذر من حقيقة أن التاريخ لا يصدر حكمه بتقريظ أي رئيس كان للولايات المتحدة، إلا بعد مضي 50 عاماً على انقضاء ولايته. وعليه فإن أوجه الاختلاف بين سيرة ترومان والرئيس بوش الحالي، أن الأول كان قد أنجز خلال فترة ولايته كلاً من "خطة مارشال" لبناء الأمم وإنشاء حلف "الناتو"، وقد اعتبر كلاهما إنجازات راسخة للسياسات الأميركية، في حين لا يزال يفتقر بوش إلى ما يعوض عنه خسائر سوء إدارته لحربه على العراق. وبهذا ربما كان الأوفق أن نلتفت إلى رئيس "حربي" آخر في تاريخ بلادنا، يبدو أكثر شبهاً ببوش، حين نشرع في تأمل الحكم التاريخي المتوقع لاحقاً على ولايته. والمقصود بهذا الرئيس "الحربي" السابق هو وودرو ويلسون. ولعل القاسم المشترك الأعظم بين هذين، أن كليهما جاء إلى البيت الأبيض وهو على درجة كبيرة من التدين والخلو من أي تجربة سابقة في مجال صنع السياسات، كما استجاب كلاهما للأزمة التي حدثت إبان ولايته وفق رؤية أخلاقية جريئة: فقد نشبت الحرب العالمية الأولى في عهد وودرو ويلسون، بينما استجاب بوش لهجمات 11 سبتمبر على بلاده. وكان ويلسون قد تعهد بجعل العالم أكثر أمناً وملاءمة للديمقراطية، بينما سعى بوش إلى نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط عن طريق فرضه لحكومة ديمقراطية على العراق. وعلى مستوى الخطابية، فإن في الإمكان رد الكثير مما جاء في خطابات بوش عن نشر الديمقراطية، إلى سلفه وودرو ويلسون. على أن الرؤى المثالية الطامحة إلى تغيير الدول الأخرى المعبّر عنها في خطابي كلا الرئيسين، ظلت غير قابلة للتحقق، بالنظر إلى قدرات بلادنا الفعلية. ويشترك كلا الرئيسين في عنادهما أيضاً. فقد ورد عن أحد مستشاري ويلسون قوله:"فما أن يتخذ قرار ما حتى يكون نهائياً وليس من سبيل إلى تغييره. وعلى سبيل المثال كان ويلسون في أشد الحرص والحاجة لموافقة الكونجرس على انضمام بلاده إلى عضوية عصبة الأمم. لكن وما أن توصل الكونجرس إلى قرار توفيقي يؤدي إلى النتيجة ذاتها، حتى تعنت ويلسون في رفضه لذلك القرار، ولم يستجب لأي من النداءات الموجهة إليه بالعدول عن موقفه. ومثله نرى بوش وهو يزداد تمنعاً عن الاعتراف بخطأ استراتيجيته الخاصة بالعراق، إلى أن حل شهر أغسطس من عام 2004 الذي صرح فيه قائلاً إنه "أخطأ تقدير" الوضع في عراق ما بعد الغزو. لكن وعلى رغم ذلك الاعتراف، أصر بوش على تأكيد مرونة استراتيجيته وقدرتها على التصدي لحركة التمرد التي كانت متنامية حينئذ. ثم لا بد من الأخذ بطالع كل من القادة عند الحكم على أحدهم. فقد قطعت الطريق على ويلسون سكتة دماغية أثناء حملته الداعية إلى توعية المواطنين بجدوى انضمام أميركا إلى عصبة الأمم. ومن سخرية الأقدار أن مجلس الشيوخ كان سيقر على الفور انضمام أميركا إلى العصبة، ليتوج الرئيس ويلسون بطلاً قومياً فيما لو كان قد توفي تحت تأثير تلك السكتة الدماغية. لكن وبسبب عناده، فقد رُفِض نهج الجماعية الدولية الذي تبناه، وبالنتيجة غرقت أميركا في لجة انعزالية دولية، قعدت بدورها العالمي طوال العقدين اللاحقين لإدارة ويلسون. غير أن التاريخ رد إليه اعتباره لاحقاً إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية، التي مهدت الظروف الملائمة التي مكنت الرئيسين فرانكلين روزفلت وهاري ترومان من إنشاء الأمم المتحدة، التي تفرعت عن فكرة عصبة الأمم التي نادى بها ويلسون. على أني أشك كثيراً في أن يحالف الحظ الرئيس بوش الحالي، فيرد إليه التاريخ اعتباره مثلما فعل لويلسون. ذلك أن من الأفراد من يصنع حظه بنفسه. ويقيناً فإن من سوء الحظ إغفال حقائق الواقع وخوض المغامرات الكبيرة التي لا تمليها الضرورة. والأرجح أن يحمل مؤرخو المستقبل الرئيس بوش خطأً يتمثل في إغفاله حقائق الواقع، وعجزه عن إدراك ما يتكلفه تحويل العراق إلى ديمقراطية ناجحة، إضافة إلى فشله في بناء الدعم الدولي اللازم لإنجاز هذه المهمة. وكما قال السياسي الكندي "مايكل إجناتيف" في مقال له نشر بمجلة "نيويورك تايمز" في العام الماضي:"فإن مشكلة بوش لا تقتصر على كونه لم يبد من الاهتمام ما يلزم لفهم العراق فحسب، وإنما لم يبد أي قدر من الاهتمام حتى لفهم نفسه"! وذات مرة كتب "إينوك باول"، السياسي البريطاني المحافظ قائلاً:" الفشل هو المصير المحتوم لسيرة كل زعيم سياسي، ما لم تنته هذه السيرة نهاية سعيدة في منتصف الطريق، حين يكون السياسي في أوج مجده". وقد كانت هذه النهاية السعيدة من نصيب الرئيسين السابقين "وودرو ويلسون" و"هاري ترومان". غير أن هذا الخيار لم يعد له أدنى وجود في سيرة بوش الحالي. ذلك أنه سوف يضطر إلى مغادرة منصبه دون إحراز نصر عسكري مؤزر في حروبه التي شنها، ودون أن يترك خلفه ما يذكر من إنجازات سياساته الخارجية، في حين تضاءلت كثيراًَ سمعة أميركا الأخلاقية وصورتها السياسية عالمياً. والأرجح إذن أن ينظر إليه مؤرخو المستقبل على أنه ضحية لحظه الذي صنعه بمحض طيشه وتهور سياسته. جوزيف ناي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أستاذ بجامعة هارفارد وعضو مجلس إدارة مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية. ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"